الخميس، 24 نوفمبر 2011

وقفة مع آية الجلباب ( يدنين عليهن من جلابيبهن )



وقفة مع آية الجلباب ( يدنين عليهن من جلابيبهن )





قال تعالى : {يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ ٱلْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً}



* يقولون: قال تعالى  ( ذلك أدنى أن يعرفن )   أي لكي لا يعرفن ، وهذا لا يمكن إلا بستر الوجه.

و هذا الإستدلال خاطئ


والسؤال : هل هذا نفي أم إثبات ؟... هذا إثبات ،  فالإدناء في اللغة هو التقريب وليس التغطية  ،  وأدنى : أقرب 


والمعنى : ذلك أقرب أن يعرفن بأنهن عفيفات فلا يؤذين .

وعلى  ذلك قوله تعالى : {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ} ، أي : أقْرب لنفوسهم أن تتحرى العدالة في إقامة الشهادة.
وقوله تعالى : {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ} ، أي أقرب إلى  رضاهن .






* الجلباب للتميز عند الخروج 


إن الآية تطالب النساء أن يدنين عليهن من جلابيبهن حين يخرجن من بيوتهن لقضاء حوائجهن ، وذلك حتى يتميزن عن الإماء فلا يتعرض لهن أحد بريبة . وهذا يعني أن الجلباب قد شرع لكمال الهيئة عند الخروج ، وفي كمال الهيئة كمال التميز والصيانة والتكريم . أما توفير الستر الواجب للعورة فيمكن أن يتحقق بأي طراز من الثياب ضمن الشروط التي أمر بها الشارع ونسوق النصوص الآتية على أن الجلباب كان لكمال الهيئة والتميز عند الخروج :




1- قال تعالى :   ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْن



فيه بيان لعلة إدناء الجلابيب وهي أن يعرف الناس - في الطرقات - أنهن حرائر فلا يتعرض لهن أحد بأذى




2- عن أم سلمة قالت : لما نزلت ( يدنين عليهن من جلابيبهن ) خرج نساء الأنصار كأن على رءوسهن الغربان من الأكسية ( رواه أبو داود )




3- عن أم عطية قالت : أمرنا أن تخرج الحُيّض يوم العيدين وذوات الخدور فيشهدن جماعة المسلمين ودعوتهم ويعتزل الحُيض عن مصلاهن . قال امرأة : يارسول الله إحدانا ليس لها جلباب ، قال : لتلبسها صاحبتها من جلبابها . ، رواه البخاري ومسلم 



وورد في فيض الباري للكشميري تعليقاً على هذا الحديث : ( وعلم منه أن الجلباب مطلوب عند الخروج ). كما ورد فيه أيضاً : ( فإن قلت : إن إدناء الجلباب يغني عن ضرب الخُمر على جيوبهن. قلت : بل إدناء الجلباب فيما إذا خرجت من بيتها لحاجة ، وضرب الخُمر في عامة الأحوال ، فضرب الخُمر محتاج إليه )


ثم إن قولها ( قالت امرأة : إحدانا ليس لها جلباب ) فيه دلالة أن الجلباب لم يكن لباساً أساسياً ، أي لباساً ضروريا لستر عورتها ، إنما تحتاج إليه عند الخروج وبخاصة عندما تخرج للبراز في الليل ، وعندما تخرج للصلاة مع الجماعة . أي أنه كان من كمال الهيئة ومن السمت الحسن للحرائر عند الخروج . والخروج للمسجد أو لمصلى العيد أولى بهذا السمت ، فضلاً عن كون الجلباب أعون على مزيد من الستر عند الركوع والسجود في مكان عام يؤمه الرجال . وإذا كان الجلباب لكمال الهيئة عند الخروج ولاتملكه جميع النساء ، فقد كان ولابد لكل امرأة من لباس يستر بدنها وهي في بيتها ، وذلك للصلاة أولاً وللتعامل مع الرجال ثانياً . وقد كان ذلك اللباس يتكون من دِرع وخِمار ، وماشابه ذلك كما سيتضح بعد قليل . 

4- عن سبيعة الأسلمية : ... لما تعلّت من نفاسها تجمّلت للخُطّاب ، فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك ... ،  فقال لها : مالي أراك متجملة لعلك تريدين النكاح ، فإنك والله ما أنت بناكح حتى يمر عليك أربعة أشهر وعشر. قالت سبيعة : فلما قال لي ذلك جمعت ثيابي حين أمسيت ، فأتيت رسول الله .... ، رواه البخاري ومسلم 




 5- عن فاطمة بنت قيس قالت : أرسل إليَ زوجي أبو عمرو بن حفص بن المغيرة ، عياش بن أبي ربيعة بطلاقي وأرسل معه بخمسة آصُع شعير فقلت : أما لي نفقة إلا هذا ولا أعتد في منزلكم قال لا. فشددت علي ثيابي ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ...  ، رواه مسلم 



فسبيعة رضي الله عنها كانت تلبس مايسترها عندما دخل عليها أبو السنابل ولكن عندما عزمت على الخروج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعت عليها ثيابها - يعني جلبابها - . وكذلك فاطمة بنت قيس كانت تلبس ما يسترها وهي تحدث عياش بن أبي ربيعة فلما انتهى حديثها معه شدت عليها ثيابها وأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم . وكما أن للنساء لباساً لكمال الهيئة عند الخروج وهو الجلباب فكذلك الرجال ، فهذا عمر بن الخطاب يحرص على كمال الهيئة عند الخروج فيقول عند خروجه لحفصة : " ... ثم جمعت علي ثيابي ( وفي رواية : شددت علي ثيابي ) فدخلت على حفصة ... ويقول عند خروجه للصلاة : ... فجمعت علي ثيابي فصليت صلاة الفجر مع النبي صلى الله عليه وسلم . أي أنه كما يتجمل الرجال للخروج وللجمع والأعياد بخاصة فيكونو في أكمل هيئة ولباس ولايكتفون - ماوسعهم الأمر - بثوب واحد ( إزار أو غيره ) فكذلك تتجمل النساء التجمل اللائق بهن - يعني كمال الستر والإحتشام - فيدنين عليهن من جلابيبهن - ويغطين مايلبسنه من دِرع أو قميص أو إزار أو غيره .



5- عن مالك أنه بلغه أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانت تصلي في الدّرع والخمار  ( رواه مالك )


وتقرير ان الدّرع والخمار كافيين للصلاة يدل على أنهما يستران العورة ، إذ هما يحصلان الستر الواجب ، أي ستر العورة المطلوب شرعاً في آية ( ولايبدين زينتهن إلا ماظهر منها ) . وعليه فإن الجلباب مقصود به أمر زائد عن مجرد الستر الواجب ، ذلك هو كمال الهيئة والسمت الحسن الذي كان يميز الحرائر .


6- عن أسامة بن زيد قال : كساني رسول الله صلى الله عليه وسلم قبطية كثيفة مما أهداها له دحية الكلبي ، فكسوتها امرأتي ، فقال : مالك لم تلبس القبطية ؟ قلت : كسوتها امرأتي ، فقال : مرها فلتجعل تحتها غلالة ، فإني أخاف أن تصف حجم عظامها . ، رواه أحمد

قبطيّة كثيفة : القٌبطيّة ثياب من كتان بيض رقاق. وكثيفة : غليظة
الغلالة : ثوب رقيق يلبس تحت غيره من الثياب


وحذر الرسول صلى الله عليه وسلم المتمثل في قوله " فإني أخاف أن تصف حجم عظامها " . يدل على أن الشرع لم يلزم المرأة بالجلباب في البيت حين تلقى الرجال ، وأنه لاحرج عليها أن ترى الرجال وهي تلبس القُبطِيّة وتحتها غلالة . هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى لو كان الجلباب ضرورياً داخل البيت لكفى في جبر عيب القُبطِيّة ، ولما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مرها فلتجعل تحتها غلالة " .



7- عن عائشة قالت : كنت ادخل بيتي الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي فأضع ثوبي وأقول : إنما زوجي وأبي ، فلما دفن عمر معهم فوالله ما دخلته إلا وأنا مشدودة علي ثيابي ، حياء من عمر رضي الله عنه

وفي رواية : فلما دفن عمر أخذت ( عائشة ) الجلباب فتجلببت ، فقيل لها : مالك وللجلباب ؟ قالت : كان هذا زوجي وهذا أبي فلما دفن عمر تجلببت . ، رواه أحمد



إن نساء النبي صلى الله عليه وسلم مأمورات داخل البيوت بالحجاب ، وهو ستر أشخاصهن وراء حجاب عن الرجال ، والجلباب هنا هو أقصى مايمكن أن يكون بديلاً عن الحجاب لتحقيق تورع عائشة رضي الله عنها .


8-  عن سعيد بن المسيب ، قال : " خرجت جارية لسعد يقال لها : زيرا ، وعليها قميص جديد ، فكشفتها الريح ، فشد عليها عمر - رضي الله عنه - بالدرة ، وجاء سعد ليمنعه ، فتناوله بالدرة ، فذهب سعد يدعو  ، فناوله عمر الدرة ، وقال : اقتص ، فعفا عن عمر " .  رواه الطبراني



الحديث يفيد أن الأمة تخرج بالقميص دون جلباب ولاحرج ، واما شد عمر عليها بالدرة فبسبب مالاح منها من استهتار أو إهمال للإحتشام 


والخلاصة : أن الأمر بإدناء الجلابيب فيه كمال مع التميز كمال الهيئة عند الخروج وقد ذكر سبحانه وجه أمره بالجلباب وإدنائه فقال : ( ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين ) أي ليتميز الحرائر عن الإماء . اما الستر الواجب لعورة المرأة فيمكن أن يتحقق بأي طراز من طرز اللباس مثل الدّرع والخمار والقبطية وماشابه ذلك . وفي ذلك يقول ابن تيمية : ( ... وأمرت بعد ذلك أن ترخي من جلبابها ، والإرخاء إنما يكون إذا خرجت من البيت فأما إذا كانت في البيت فلا تؤمر بذلك ) .




هل الأمر بإدناء الجلابيب على سبيل الوجوب أم الندب ؟

لقد ورد في الآية الكريمة علة إدناء الجلابيب وذلك قوله تعالى : ( ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين ) . أي أن العلة هنا منصوصة من ناحية ، ومعقولة المعنى من ناحية ، وتحقق مصلحة للحرائر من ناحية . والعلة بهذه المواصفات يقول عنها القاضي ابن رشد : ( ... اختلفوا في الأمر والنهي الوارد لعلة معقولة المعنى هل تلك العلة المفهومة من ذلك الأمر او النهي قرينة تنقل الأمر من الوجوب إلى الندب ، والنهي من الحظر إلى الكراهية أم ليست قرينة ... ثم قال : الأحكام المعقولة المعاني في الشرع أكثرها هي من باب محاسن الأخلاق أو من باب المصالح وهذه في الأكثر مندوب إليها .
















 * يدنين عليهن من جلابيبهن 


ونورد فيما يأتي بعض ماورد في كتب التفسير عن هذه الآية :

جامع البيان للطبري 

( اختلف أهل التأويل في صفة الإدناء الذي أمرهن الله به ، فقال بعضهم : هو أن يغطين وجوههن ورءوسهن ، فلا يبدين منهن إلا عينًا واحدة . وقال آخرون بل أمرن أن يشددن جلابيبهن على جباههن ) .

وقد أورد الطبري ثلاث روايات للقول الأول ، واحدة عن ابن عباس واثنتين عن عبيدة . كما أورد أربع روايات للقول الثاني واحدة عن ابن عباس وأخرى عن قتادة وثالثة عن مجاهد ورابعة عن أبي صالح . على أن روايتي مجاهد وأبي صالح لم تنص على الشّد على الجباه . بل ذكرتا أنهن (( يتجلببن )) وَ (( يقنعن بالجلباب )) 

يقنعن : أي يغطين رءوسهن 



الوجيز في تفسير القرآن العزيز للواحدي 

( المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ...)  أي يُرخين أردِيَتهن ومَلاحِفهن ليُعلَم أنهم حرائر يتعرض لهن .

أرديتهن : جمع رداء ، وهو الثوب الذي يستر الجزء الأعلى من الجسم فوق الإزار
ملاحفهن : جمع ملحفة . والملحفة هي الملاءة التي تلتحف بها المرأة .




الكشاف للزمخشري 

( الجلباب: ثوب واسع أوسع من الخمار ودون الرداء ، تلويه المرأة على رأسها ، وتبقي منه ما ترسله على صدرها ... ومعنى "من " في قوله تعالى ( من جلابيبهن ) للتبعيض . ويحتمل وجهين : أحدهما أن يتحلين ببعض مالهن من الجلابيب ، والثاني أن ترخي المرأة بعض جلبابها على رأسها أو وجهها ) .




المحرر الوجيز لإبن عطية :

و « الجلباب » ثوب أكبر من الخمار ، وروي عن ابن عباس وابن مسعود أنه الرداء واختلف الناس في صورة إدنائه ، وقال ابن عباس أيضا وقتادة وعبيدة السلماني ذلك أن تلويه المرأة حتى لا يظهر منها إلا عين واحدة تبصر بها ، وقال ابن عباس أيضا وقتادة وذلك أن تلويه فوق الجبين وتشده ثم تعطفه على الأنف وإن ظهرت عيناها لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه


انظر ، هنا هيئتان في الإدناء وهناك في الطبري ثالثة وهي إلى الجبين ، وفي غيره هيئات أخرى وكلها محتملة . وكثرتها تفيد أنها اجتهادات يستحسنها القائلون بها .




زاد المسير لإبن الجوزي 

قوله تعالى ( يدنين عليهن من جلابيبهن ) قال قتيبة : يلبسن الأردية . وقال غيره : يغطين رءوسهن ووجوههن ) .


البحر المحيط لأبي حيان 


وقال الكسائي : ( يدنين عليهن ) يَتَقَنَّعن بملاحفهن منضمة عليهن . أراد بالإنضمام معنى الإدناء) .


السراج المنير للخطيب الشربيني 

كل مايستر به من دثار وشِعَار وكساء فهو جلباب ، والكل تصح إرادته هنا . فإن كان المراد القميص ، فإدناؤه إسباغة حتى يغطي بدنها ورجليها ، وإن كان مايغطي الرأس فإدناؤه ستر وجهها وعنقها ، وإن كان المراد مايغطي الثياب ، فإدناؤه تطويله وتوسيعه بحيث يستر جميع بدنها وثيابها . وإن كان المراد مادون الملحفة فالمراد ستر الوجه والكفين


الدثار : الثوب الذي يكون فوق الشعار
الشعار : مايلي جسد الإنسان دون ماسواه من الثياب





فتح القدير للشوكاني 

قوله تعالى : ( أدنى أن يعرفن )  أي أقرب أن يعرفن فيتميزن عن الإماء ويظهر للناس أنهن حرائر ( فلا يؤذين ) من جهة أهل الريبة بالتعرض لهن ، مراقبة لهن ولأهلهن ... المراد أن يعرفن أنهن حرائر لا إماء لأنهن قد لبسن لبسة تختص بالحرائر .




أولاها : الإدناء إلي الوجه وإبداء عين واحدة  ( حسب روايات عند الطبري وغيره )
ثانيتها : الإدناء إلى الجبين  ( حسب روايات عند الطبري )
ثالثتها : الإدناء إلى الوجه وإبداء العينين  ( حسب رواية عند ابن عطية )
رابعتها : إرخاء أرديتهن وملاحفهن ( حسب قول للواحدي )
ومثله قول ابن قتيبة : يلبسن الأردية ( نقله ابن الجوزي )
خامستها : التجَلْبُب أو التحلي ببعض ما لهن من الجلابيب ( إحدى الروايات عند الطبري عن مجاهد وأحد قولين للزمخشري
سادستها : أن يتقنعن بملاحفهن منضمة عليهن ويراد بالإنضمام معنى الإدناء ( نقله أبو حيان عن الكسائي )
سابعتها : إن كان المراد بالجلباب هو القميص فإدناؤه إسباغه حتى يغطي بدنها ورجليها 
ثامنتها : إن كان المراد بالجلباب مايغطي الرأس فإدناؤه ستر وجهها وعنقها 
تاسعتها : إن كان المراد بالجلباب مايغطي الثياب فإدناؤه تطويله وتوسيعه بحيث يستر بدنها وثيابها 
عاشرتها : إن كان المراد بالجلباب مادون الملحفة فإدناؤه ستر الوجه واليدين 

والهيئات الأربعة الأخيرة نقلها الخطيب الشربيني عن الخليل . وقد بدأ الخليل شرحه بقوله : ( كل مايستر من دثار وشعار وكساء فهو جلباب والكل تصح إرادته هنا ) .



وكل هذه الهيئات التي ذكرها المفسرون محتملة ، ولكن أصعب هذه الهيئات أن تمسك المرأة بطرف جلبابها لتدنيه على وجهها وتبدي عيناً واحدة أو العينين معاً إذ تظل يدها مشغولة بصفة دائمة وتظل معوقة عن معاناة بعض الأعمال التي تقتضي حركة اليدين معاً كغسل الثياب أو فلاحة الأرض كما تفعل المرأة الريفية ، أوجِدَاد نخل كما ورد في السنة "خرجت امرأة تَجُدّ نخلها". ولاتستطيع أن تحمل طفلاً أو شيئاً ، أو تفحص سلعة أو تركب دابة وتمسك بخطامها. كما أن رسول الله أمر المرأة باتخاذ الجلباب عند خروجها لصلاة  العيد فقال : (( لتلبسها صاحبتها من جلبابها )). وهي بحاجة إلى أن تتحرر يدها أثناء الصلاة حتي تستطيع أن ترفع يديها للتكبير ثم لتركع وتسجد . ولايقال هنا أن الوجه ليس بعورة في الصلاة ، لأن المرأة في مصلى العيد تتعرض تتعرض لنظر الرجال وفي هذه الحال يكون وجهها عورة يجب سترها ، كما يقول المعارضون لمشروعية كشف الوجه . وكل هذا يعني أنه لايمكن أن يكون تلازم دائم بين إدناء الجلباب وبين ستر الوجه



وأخيرا إذا كان ستر الوجه مشروعاً فالأولى أن يتم بنقاب ، فهو معروف من قديم من ناحية ، وهو أثبت في الستر من ناحية ثانية. ثم هو أيسر على المرأة من ناحية ثالثة حيث يعفيها من إشغال يديها دائماً بإمساك طرف الجلباب لتدنيه على وجهها ونحن نرجح حمل الروايات القائلة ( يغطين وجوههن ويبدين عيناً واحدة ) على أنها إحدى الهيئات المشروعة للإدناء وليست الهيئة الوحيدة الواجبة  وأما حمل روايات "ويبدين عينا واحدة" على وجوب هذه الهيئة بذاتها فهو حمل غير مقبول ، فهو يعارض كما ذكرنا قوله صلى الله عليه وسلم ((لاتنتقب المحرمة)). إذ يفيد مفهوم هذا القول مشروعية النقاب في غير الإحرام ، والنقاب يبرز العينين مع محجريهما لاعينا واحدة . ونحن بترجيحنا اعتبار هيئة " يبدين عيناً واحدة " إحدى الروايات المشرعة ، نجمع بين الأدلة ولانضرب النصوص بعضها ببعض كما نجمع بين الروايات الواردة . أي نجمع بين دلالة أية سورة الاحزاب " يدنين عليهن من جلابيبهن " وبين دلالة سورة النور : ( ولايبدين زينتهن غلا ماظهر منها ) فالآية الأولى تقرر تميز ستر الحرائر عن الإماء بالجلابيب . والآية الثانية تقرر مشروعية إبداء الوجه والكفين ، وإعتبارهما - مع مافيهما من الزينة الظاهره التي يجوز إبدائها للرجال الأجانب . كما أننا بهذا الترجيح نجمع بين الروايات والأقوال التي أوردها المفسرون جميعاً حول آية ( يدنين عليهن من جلابيبهن ) . وإذا تأملنا في تلك الهيئات ودنا أن ثانيتها ورابعتها ( وقد قال بهما ابن قتيبة والواحدي ) وخامستها ( أحد قولين للزمخشري وإحدى الروايات عند الطبري ) .. وسادستها ( نقله أبو حيان عن الكسائي ) .. وسابعتها وتاسعتها ( نقلهما الخطيب عن الخليل ) كلها تفيد إدناء الجلباب على البدن بصفة عامة دون ذكر الوجه .


ونقول للذين يحاولون إثبات وجوب ستر الوجه بناءاً على تلك الروايات التي أوردها الطبري وغيره ، نقول أن هذه الروايات ليست من قبيل الأدله الشرعية القاطعة ، إنما هي من قبيل المؤشرات التي يستأنس بها الباحث . ثم إنها - فضلاً عن أمر سندها ومايحتمله من صحة وضعف - لاتنقل لنا سنة عن رسول الله صلى  الله عليه وسلم قولية أو تقريرية . إنما هي إجتهاد من القائل بما يراه في معنى الإدناء بما يستحسنه هو ويحسب أنه يناسب الستر اللازم للمرأة في زمن إجتهاده . ولو فرضنا جدلاً أن الروايات نقلت لنا فعل بعض النساء على عهد النبي صلى الله عليه وسلم - أوردت سنة تقريريه - فلا تزيد دلالة ذلك الفعل على جواز الأمر ولادلة فيه إطلاقاً على الوجوب . وأياً كان الأمر فقد إختلفت الأقوال وليست هناك قول أولى من قول ، ولايمكن أن يتقرر واجب شرعي بمثل تلك الأقوال .

ونحسب أن الأولى تفسير الآية بالوجه الأول الذي ذكره الزمخشري بمعنى " من " في قوله تعالى : ( من جلابيبهن ) ، وهو أن " يحلين ببعض مالهن من الجلابيب " وهو قريب من قول مجاهد عند الطبري : " يتجلببن فيعلم أنهن حرائر " .. ومن قول أبي صالح عند الطبري أيضاً : " يقنعن بالجلباب " وقول ابن قتيبة : " يتقنعن بملاحفهن منضمة عليهن أراد بالإنضمام معنى الإدناء " . ومن قول الخليل : " إن كان المراد المراد بالجلباب القميص فإدناؤه إسباغه حتى يغطي بدنها ورجليها " ومن قوله أيضاً : " إن كان المراد بالجلباب مايغطي الثياب فإدناؤه تطويله وتوسيعه بحيث يستر جميع بدنها وثيابها


ذلك أن هذا الوجه مما ورد في السنه قال سبيعة الأسلمية : " جمعت عليّ ثيابي حين أمسيت وأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم " وقالت فاطمة بنت قيس : ( فشددت عليّ ثيابي وأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ) كما أن هذا الوجه يغنينا عن الخوض في إثبات هيئة معينه للإدناء ونفي غيرها بل هو متسع لقبول مختلف الهيئات خاصة وأن لكل هيئة عدة روايات في كتب التفسير ، وكلها محتمله الوقوع ولو كان ذلك أحيانا دون أحيان

وإن كنا خضنا طويلاً بدافع الرد على مثبتي وجوب ستر الوجه فلم يكن خوضاً لنفي مشروعية الستر لبيان حفظ أدلة ايجابه . ثم إن الجلباب أياً كانت طريقة إدنائه فهو يحقق تميز ستر الحرائر المطلوب في الآية .



ونقول أخيراً لمعارضي مشروعية كشف الوجه :

إذا كانت هذه الأوصاف للجلباب كلها محتملة وهذه الهيئات للإدناء كلها محتملة فقد إجتهد في تقريرها علماء أفاضل ، فلماذا الوقوف عند هيئة واحدة والزعم أنها الهيئة الوحيدة الواجبة ، وذلك دون دليل من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، بل دون سند من قول صحيح لصحابي جليل ؟

وإذا كانت رواية الإدناء إلى الوجه وإبداء عيناً واحدة ضعيفه حين تسند إلى صحابي جليل ، وصحيحه حين تسند إلى التابعي الكبير عبيدة السلماني ، فهل صحتها إلى عبيدة تجعلها ترجح على أقوال صحيحه أوردها البيهقي في الصحابه الأجلاء ابن عمر وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم جميعاً - تقرر أن ظاهر الزينة الذي يبدى للرجال الأجانب هو الوجه والكفان .


وللشيخ ابن باديس بحث جيد في هذا الموضوع . قال رحمة الله :

(الإدناء من الدنو وهو القرب ،  فالإدناء التقريب ، فيدنين عليهن من جلابيبهن بمعنى يقربن عليهن ، وأصل فعل دنا أن يتعدى بمن ، تقول دنون منه وأدنيته منه ، وإنما يتعدى بعلى إذا كان في الكلام معنى الإرخاء أو الضم كما في قوله تعالى ( ودانية عليهم ظلالها ) .. وكما ( يدنين عليهن ) . والجلباب - على إختلاف عبارات اللغويين في تفسيره هو الثوب الأعلى الذي تجعله المرأة فوق رأسها وترسله على بدنها كالملحفة ونحوها . و " من " للتبعيض لأن الذي تدنيه عليها من ناحية وجهها إنما هو بعض جلبابها ، فأفادت الآية طلب تقريب المرأة بعض جلبابها وإرخائه وضمه عليها من ناحية وجهها . وهذا محتمل لأن يكون بتغطية جميع الوجه وبتغطية بعضه . وإختلاف المفسرين من السلف في معنى الآية دليل على وجود هذا الإحتمال  ... وأجود مانقل عن أئمة العربية في تفسير الآية قول الكسائي : ( يتقنعن بملاحفهن منضمة عليهن ) قال الزمخشري : ( أراد بالإنضمام معنى الإدناء ) والتقنع لايقتضي ستر الوجه كله . في الآية قولان لهم نقلهما ابن جرير في تفسيره الشهير . الأول : هو أن يغطين وجوههن ورءوسهن فلا يبدين منهن إلا عيناً واحدة . وهذا قول عبيدة وقول ابن عباس من طريق أبي صالح . الثاني : أمرن أن يشددن جلابيبهن على جباههن ، وهو قول قتادة وقول ابن عباس من طريق محمد بن سعد ... قد مضت آية الإبداء مفيدة جواز إبداء الوجه والكفين على مقتضى ماتقدم من البيان ، وجاءت بعدها آية الإدناء محتملة لطلب ستر الوجه كله كما في القول الأول . وتكون عليه معارضة لأية الإبداء المتقدمة ، تلك تبيح كشف الوجه وهذه تحظره ، ومحتملة لطلب الإرخاء والضم لبعض الجلباب على بعض الوجه وهو الجبين كما في القول الثاني ، ولاتكون حينئذ معارضة لآية الإبداء . وحملها على ماتكون به معارضة بين الآيتين - وهو الوجه الثاني - أرجح وأولى إن لم يكن متعيناً . ثم إن قوله تعالى : ( ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين ) . يفيد أن على طلب الإدناء هو تمييزهن عن الإماء اللاتي كن يمشين حاسرات أو بقناع مفرد فيتعرض لهن أهل الشطاره - الفجور - والسفهاء . وفي الغدناء على الوجه الثاني في الآية تحصيل لهذا المقصود من التمييز ، فحملها عليه مناسب للعلة وسالم من المعارضة فهو المختار . وبهذا التقرير تكون كل آية مفيدة معنى غير الذي أفادته الأخرى ، فأية الإبداء أفادت طلب ستر الأعضاء إلا الوجه والكفين وآية الإدناء أفادت طلب الستر الأعلى الذي يحيط بالثياب ويعم الرأس وما والاه من الوجه وهو الجبين وينضم على البدن ليحصل به تمييز الحرائر بالمبالغة في التستر والإحتشام . وهذا هو المناسب لجوامع كلم القرآن والله أعلم ) 


ونسوق كلاماً نفيساً لإبن القيم يبين الموقف الصحيح إذا تعارض قول أحد من الناس - أيّا كان قدره ومكانته - مع سنة سنها الرسول صلى الله عليه وسلم ، فالأحاديث الصحيحه تفيد غلبة كشف الوجه في مجتمع المسلمين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد أصحابه الأبرار - يؤكد أن مشروعية كشف الوجه سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم


قال إبن القيم : ( والذي ندين الله به ولايسعنا غيره وهو القصد في هذا الباب ، ان الحديث إذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يصح عنه حديث آخر ينسخه ، أن الفرض علينا وعلى الأمة الأخذ بحديثه وترك كل ماخلفه ، ولانتركه لخلاف أحد من الناس كائناً من كان لا رواية ولاغيره ، إذ من الممكن أن ينسى الراوي الحديث أو لايحضره وقت الفتيا ، أو لا يتفطن لدلالته على المسألة ، أو يتأول فيه تأويلاً مرجوحاً يقوم في ظنه مايعارضه ولايكون معارضاً في نفس الأمر ، أو يقلد غيره في فتواه بخلافه لإعتقاده أنه أعلم منه وأنه إنما خالفه لما هو أقوى منه . ولو قدر انتفاء ذلك كله ، ولاسبيل إلى العلم بإنتفائه ولاظنه ، لم يكن الراوي معصوماً





ذكر الألباني في "الرد المُفْحِم" الأحاديث الضعيفة والآثار الواهية التي استدل بها المخالفون على وجوب ستر الوجه :



الحديث الأول :  حديث ابن عباس في الكشف عن العين الواحدة.

للحديث علتين :
1- أبو صالح المصري عبد الله بن صالح فيه ضعف.
2- علي بن أبي طلحة تكلم فيه بعض الأئمة ولم يسمع من ابن عباس بل لم يره وقيل بينهما مجاهد.

وعن قول ابن عباس"وإدناء الجلباب أن تقنع وتشد علي جبينها": أن إسناده ضعيف,ولكنه أرجح من رواية إبداء عين واحدة لأمور :

1- أنه الأقرب إلي لفظ "إدناء".
2- أنه الموافق لما صح عن ابن عباس أن الوجه والكفين من الزينة الظاهرة.
3- أنه الموافق لقول ابن عباس " تدني الجلباب إلى وجهها ، ولا تضرب به". أخرجه أبو داود في " مسائله"  بسند صحيح جداً.
4- أنه المنقول عن تلامذة ابن عباس كسعيد بن جبير فإنه فسر (الإدناء): بوضع القناع على الخمار وقال:" لا يحل لمسلمة أن يراها غريب إلا أن يكون عليها القناع فوق الخمار وقد شدت بها رأسها ونحرها".

وذكر نحوه أبو بكر الجصاص في" أحكام القرآن" عن مجاهد أيضاً مقروناً مع ابن عباس: " تغطي  الحُرَّة إذا خرجت  جبينها ورأسها".   
ومجاهد ممن تلقى تفسير القرآن عن ابن عباس رضي الله عنه.ثم تلقاه عن مجاهد قتادة رحمهما الله تعالى فإنه من تلامذته والرواة عنه فقال في تفسير (الإدناء) :"أخذ الله عليهن إذا خرجن أن يُقَنِّعن على الحواجب". أخرجه ابن جرير  بسند صحيح عنه.


الحديث الثاني: عن محمد بن كعب القرظي مثل حديث ابن عباس الأول في: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ} قال:" تخمِّر وجهها إلا إحدى عينيها". إسناده موضوع.





الحديث الثالث  : من الضعيف الذي استدلوا به:" سؤال ابن سيرين عبيدة السلماني عن آية (الإدناء)؟ فتقنَّع عبيدة بِملحفة وغطى رأسه كله حتى بلغ الحاجبين وغطّى وجهه وأخرج عينه اليسرى". أخرجه السيوطي في " الدر" . 


وبيان ضعفه من وجوه : 


1. أنه مقطوع موقوف فلا حجة فيه لأن عبيدة السلماني تابعي اتفاقاً فلو أنه رفع حديثاً إلى النبي صلي الله عليه وسلم  لكان مرسلاً لا حجة فيه فكيف إذا كان موقوفاً عليه كهذا ؟! فكيف وقد خالف تفسير ترجمان القرآن: ابن عباس ومن معه من الأصحاب؟! 
2. أنهم اضطربوا في ضبط العين المكشوفة فيه فقيل: "اليسرى" –كما رأيت- وقيل:" اليمنى" وهو رواية الطبري وقيل: "إحدى عينيه " وهي رواية أخرى له ومثلها في " أحكام القرآن " للجصاص  وغيرهما.
3. ذكره ابن تيمية في " الفتاوى"  بسياق آخر يختلف تماماً عن السياق المذكور فقال: 
" وقد ذكر عبيدة السلماني وغيره: أن نساء المؤمنين كنَّ يدنين عليهن الجلابيب من فوق رؤوسهن حتى لا يظهر إلا عيونهن لأجل رؤية الطريق".
وإذا عرفت هذا فاعلم أن الاضطراب عند علماء الحديث علة في الرواية تسقطها عن مرتبة الاحتجاج بها حتى ولو كان شكلياً كهذا لأنه يدل على أن الراوي لم يضبطها ولم يحفظها على أن سياق ابن تيمية المذكور ليس شكلياً كما هو ظاهر لأنه ليس في تفسير الآية وإنما هو إخبار عن واقع النساء في العصر الأول وهو بهذا المعنى صحيح ثابت في أخبار كثيرة ، ولكن ذلك لا يقتضي وجوب الستر لأنه مجرد فعل منهن ولا ينفي وجود من كانت لا تستر وجهها بل هذا ثابت أيضاً في عهده صلى الله عليه وسلم وبعده .

4. مخالفته لتفسير ابن عباس للآية كما تقدم بيانه فما خالفه مطرح بلا شك. 






هذا البحث مقتبس من كتاب تحرير المرأة في عصر الرسالة .. للشيخ عبدالحليم أبو شقه - يرحمه الله 
وكتاب الرد المفحم للشيخ الألباني - يرحمه الله -

0 التعليقات:

إرسال تعليق